1 ـ تقنيــات البحث العلمـي
اختلف الباحثون في تحديد المراحل و الخطوات الإجرائية المعتمدة في بناء البحث من أول اختيار المشكلة حتى كتابة التقرير النهائي ... و في ما يلي سوف نتناول بالعرض و التلخيص بعض وجهات النظر حتى يمكننا أن ننتهي بتنظيم خاص يمكن أن تجمع فيه الخطوات الرئيسية المنهجية التي قد يجب أن يتبعها الباحث عند دراسته لأية مشكلة من المشكلات الاجتماعية أو ظاهرة من ظواهر الطبيعة.
ـ و يعرض لنا " ميلتون فيرتشيلد " في كتابه البحث العلمي ، خطوات البحث العلمي الرئيسية التي يتبعها الباحث فيما يلي:
1 ـ جمع البيانات عن المشكلات أو إجراء مسح للتراث الفكري في مجال ميدان يختاره الباحث و تسجيل هذه البيانات و التأكد من صحتها.
2 ـ تصنيف و ترتيب البيانات التي تم جمعها من ناحية التشابه أو الاختلاف مع بعضها البعض أو التمييز بين صفاتها أو حسب غيرها من محكات التصنيف.
3 ـ تعميم النتائج حتى يمكن الوصول إلى مبادئ أو قوانين أو نظريات عامة في صورة مبدئية.
4 ـ تحقيق صحة المبادئ أو القوانين أو النظريات التي تم التوصل إليها عن طريق التجربة.
5 ـ وضع البيانات و النتائج في صورتها النهائية.
ـ و لـقد حاولت " سلتز و زملاؤها " أن تقدم صورة كاملة تعرض فيها خطوات البحث العلمي يمكن تلخيصها:
1 ـ تحديد مشكلة البحث.
2 ـ تحديد إطار الدراسة و إجراءات البحث ( الهدف ، الفرضية ، العينة ، أسلوب جمع المعطيات ، أسلوب التحليل الإحصائي ).
3 ـ النتائـــج.
4 ـ ما تتضمنـه النتائــج.
ـ أما " آيلسون " فقد وضع تصور البحث العلمي أكثر اتساعا من " سلتز " نلخصها فيما يلي:
1 ـ اختيار المشكة أو الموضوع ( تحديد مجالات البحث مدققة ).
2 ـ تحديد المشكلة ( الأسباب ، الأهمية ، المجال ).
3 ـ خطوات العمل ( تحديد عناصر المشكلة و فروعها و أقسامها ، تحديد خطوات البحث المتبعة في حل المشكلة ، و البيانات الواجب الحصول عليها ، الوسائل ، تصنيف البيانات، الفروض .. إلخ ).
4 ـ النتائــج ( تحقيق الفروض و استخراج النتائج ).
5 ـ البحوث السابقة ( مسح للتراث الفكري و البحوث السابقة التي ترتبط بمشكلة الدراسة ).
ـ أما " كاتا بادهي " فقد حدد ثلاث مراحل يمر بها البحث الاجتماعي ، هي:
1 ـ مرحلة تقيـيم البحث.
2 ـ مرحلة تنفيذ البحث.
3 ـ مرحلة مراجعة النتائج و تحليلها و كتابة التقرير.
أما المرحلة الأولى فتتضمن تحديد هدف البحث و الغرض منه و إمكانات إجرائه ، و الموارد الفنية و الماديـة حتى يمكن تحديد مجال البحث و طريقة جمع المعطيات في الميدان و تفريغها في جداول و تبويبها.
أما المرحلة الثانية فتتضمن تحديد الفروض التي يهدف البحث إلى تحقيقها ثم تحديد العلاقات المراد معرفـة نوعها و درجتـها و تصميم جداول التفريغ ، و أدوات البحث و حجم العينة .. إلخ ، و تتضمن المرحلة الثالثة طريقة الحصول على البيانات و تحليل هذه البيانات و وضعها في جداول و كتابة التقرير النهائي.
ـ و هناك من يصنف البحوث إلى نوعين ، الأول نظري و الثاني تطبيقي ، و يسمى الأول بالبحث الأساسي لأنه يهتم بتنمية نظريات العلم بدءا من اختيار فرضياته و انتهاء بتنقية نتائجه من الرؤى الضيقة أو تعميمات واسعة المدى لكي تصبح قابلة للتطبيق الفوري ، و غالبا ما يبدأ الباحثون في هذا النوع من البحوث إلى تحدي ، أو نقد أو تقويمه للإحدى النصوص النظرية المعينة فييذهبون إلى اختبارها و التأكد من صحتها أو بطلانها ، لذلك لا يستمتع القارئ العادي ( غير المتـخصص مثلا بعلم ) بقراءتها أو الإطلاع عليها لأنها لا تعالج مشكلات مجتمعـه المعاصرة ، و مصاغة بأسلوب فلسفي و منطقي رفيع المستوى و عميق التفكير فضلا عن استخدامه النموذج البحثي الذي يعني نمطا أو مثالا يحتدى به أو رؤية أو إطارا مرجعيا يعكس صورة الحياة الاجتماعية متضمنا مجموع من المفاهيم و الاحتمالات كما يراها الباحث ، فالنموذج إذن نافذة ذهنية ينظر من خلالها الباحث إلى مجريات الحياة الاجتماعية.
و فيما يلي المراحل العامة للبحث الاجتماعي:
و لكن على الرغم من أن المشتغلين في علم مناهج البحث قد اختلفوا حول تصميم البحوث و تنظيمها إلا أن هناك فيما بينهم خطوطا عريضة عامة تكاد تكون شبه اتفاق حولها ، و من هذا المنطلق يمكن القول إلى أن عملية البحث في مجال العلوم الإنسانية تمر بمراحل ثلاثة رئيسية هي:
المرحلة التحضيرية و المرحلة الميدانية و المرحلة النهائية ، و كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث تتضمن مجموعة من الخطوات الإجرائية ، ففي المرحلة التحضيرية يقوم الباحث باختيار مشكلة البحث و صياغتها و تحديد المفاهيم و الفروض العلمية و تحديد نوع الدراسة التي يقوم بها و كذا نوع المنهج المستخدم في البحث و الأدوات اللازمة لجمع البيانات ، كما يقوم بتحديد مجالات البحث الثلاثة البشري و المكاني و الزمني.
و في المرحلة الميدانية يقوم الباحث بجمع البيانات إما بنفسه أو عن طريق مجموعة من الباحثين الميدانيين الذين يستعان بهم في غالب الأحيان في البحوث الكبيرة ، و تتضمن هذه المرحلة مجموعة من الخطوات أهمها : عمل الإتصالات اللازمة بالمبحوثين و تهيئتهم لعملية البحث و إعداد الباحثين الميدانيين و تدريبهم و الإشراف عليهم أثناء جمع البيانات ، ثم مراجعة البيانات الميدانية لاستكمال نواحي النقص فيها و التأكد من صحتها و مسجلة بطريقة سليمة.
و في المرحلة النهائية يقوم الباحث بتصنيف البيانـات و تفريغها و جدولتـها و تحليلـها و تفسيرها ، ثم يقوم بكتابة تقرير مفصل يشتمل على كل الخطوات التي مرت بها عملية البحث.
مع العلم أن مراحل البحث و خطواته مترابطة فيما بينها ترابطا وظيفيا بحيث يصعب وضع الحـدود و الفواصل فيما بينها ، و لـذا فإن البـاحث حينما يصمم بحثه يفكر في كل المراحل و الخطوات باعتبارها وحدة متكاملة ، إلا أنه يقوم بإبراز الخطوات واحدة بعد الأخرى كلما تقدم في دراسته.
و ليس ترتيب خطوات البحث واحدا من حيث الأولوية و إنما تقتضي طبيعة كل بحث تقديم أو تأخير بعضها على بعض.
و نتعرض فيما يلي لهذه الخطوات بشيء من الإيجاز :
الخطـوات المنهجية للبحث الاجتماعــي:
إن تحديد الخطوات الرئيسية التي يجب على الباحث الإستناد إليها تستلزم طرح مجموعة من الأسئلة على الباحث نفسه و هي على النحو الآتي:
ـ ما هو الموضوع الذي يشغلني بالضبط ؟
ـ لماذا يشغلني هذا الموضوع ؟
ـ ما هي عناصر هذا المشكل ؟
ـ هل دراسة هذا الموضوع ضرورة اجتماعية ؟
ـ هل دراسة هذا الموضوع ممكنة أم غير ممكنة ؟
ـ ما هو نوع الدراسة المطلوبة أو الممكنة ؟
ـ ما هي الأهداف المتوخاة من هذه الدراسة ؟
ـ ما هي المنفدات الأساسية ؟
ـ ما هي الفرضية المحتملة ؟
ـ ما هي المعلومات المطلوب توفرها لاختيار الفرضية ؟
ـ ما هو المنهج الذي يجب أن يعتمد في البحث ؟
ـ ما هي الأدوات المعتمدة في هذه الدراسة ؟
و أخيرا هل أن إجابتي على هذه الأسئلة كانت دقيقة و كافية و صحيحة ؟
إن الأسئلة السالفة تجرنا إلى تقديم جملة من الخطوات الرئيسية و هي كما يلي :
1 ـ إختيار مشكلة البحث و صياغتها :
تعد هذه الخطوة من أهم خطوات البحث لأنها تؤثر في باقي الخطوات التي تليها ، فمن دون تحديد دقيق لمشكلة البحث يصعب على الباحث تنفيذ بحثه .. إن مشكلة البحث هي جملة من التساؤلات التي يحاول الباحث الإجابة عنها من خلال ما هو متوافر لديه من معارف حولها من جهة ، و من خلال ما يحصل عليه من معارف جديدة عنها من جهة أخرى.
و من الضروري عند اختيار مشكلة البحث تحديد النقاط الرئيسية و الفرعية التي تشتمل عليها و صياغتها في مصطلحات واضحة محددة حتى يسهل وضع تصميم منهجي دقيق لدراستها و بحث الجوانب المختلفة لها.
2 ـ تحديد المفاهيم و الفروض العلمية :
بعد أن يحدد الباحث مشكلة الدراسة و إطارها العام يلجأ إلى ضبط المفاهيم الرئيسية المرتبطة بموضوع الدراسة و تحديدها بشكل دقيق حتى يمكن إدراك المعاني و الأفكار الذي يريد الباحث التعبير عنها دون شعور القارئ بالغموض في فهم عناصر الموضوع و المفاهيم الأساسية.
و بعد ذلك ينتقل الباحث إلى وضع الفروض التي تعد بمثابة صياغة تخمين معقول أو حل ممكن يطرح نفسه على الباحث ، و هذا الفرض قد تثبت صحته حين يتفق مع جميع الحقائق المتوفرة ، و قد يكون خاطئا و من ثم ينبغي إهماله و البحث عن فرض جديد.
3 ـ تحديد نوع الدراسة أو نمط البحث :
يتحدد نوع الدراسة وفقا لمستوى المعلومات المتوفرة لدى الباحث و كذلك على أساس الهدف المتوخى و أن وضع الفروض يرتبط بنوع الدراسة ، فالدراسات الاستطلاعية لا تستلزم وضع فروض ، بينما الدراسات الوصفية قد تتضمن فروضا إذا كانت المعلومات المتوفرة لدى الباحث تمكنه من ذلك ، أما الدراسات التجريبية فإنها تستلزم وضع فروض دقيقة و محددة لاختيارها ميدانيا.
4 ـ تحديـد المنهـج الملائـم للبـحث :
إن طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوع المنهج ، و أن مفهوم المنهج يشير إلى الكيفية التي يتبعها الباحث لدراسة المشكلة موضوع البحث ، و هو يجيب على الكلمة الاستفهامية " كيف " و الإجابة تستلزم تحديد نوع المنهج.
و من المناهج المستخدمة في البحوث الاجتماعية ، المنهج الاجتماعي ، المنهج التاريخي ، منهج دراسة الحالة ، المنهج التجريبي ... إلخ .
5 ـ تحديـد الأداة اللازمـة للبـحث :
إن مفهوم الأداة هو الوسيلة التي يجمع بها الباحث البيانات التي تلزمه و بهذا المعنى فهو يجيب على الكلمة الاستفهامية بم أو بماذا ؟ و بالتالي فإنه يجيب على هذا الاستفهام بتحديد نوع الوسيلة أو الأدوات اللازمة بجمع المعطيات.
و من الوسائل التي يلجأ إليها الباحث الملاحظة على اختلاف أنواعها ، الاستبيان ، المقابلة ، السجلات ، تحليل المضمون ...إلخ. و الأدوات تتوقف على نوعية الموضوع و المبحوثين.
6 ـ تحديـد مجالات الدراســة :
و يقصد بهذه الخطوة أن يقوم الباحث بتحديد المجال البشري للدراسة و ذلك بتحديد مجتمع البحث و من ثم أخذ عينة عن هذا المجتمع إذا كان الأمر يصعب إجراء دراسة شاملة على هذا المجتمع.
أما المجال المكاني فيقصد به تحديد المنطقة أو البيئة التي تجرى فيها الدراسة و التعريف بها.
كما أن تحديد المجال الزمني للدراسة يعد مرحلة هامة إذ يلجأ الباحث إلى تحديد الوقت الذي تجمع فيه البيانات.
7 ـ جمع البيانـات في الميــدان :
و هي خطوة تمكن الباحث من جمع المعطيات بنفسه أو عن طريق من ينوبه و الذين يجب أن تتوافر لديهم الخبرة و الدراية الكافية بالبحوث الميدانية لأن صحة النتائج و دقتها تتوقف على عملية جمع المعطيات و من يقوم بها.
ـ تصنيف البيانات و تفريغها و تبويبها:
بعد مراجعة البيانات ، يقوم الباحث بتصنيفها في نسق معين يتيح للخصائص الرئيسية أن تبدو واضحـة و جليـة ، كما أن عملية التبويب و التفريغ تتم في جداول بسيطة أو مركبـة و بطريقة يدويـة أو آلية.
ـ تحليل البيانات و تفسيرها:
من الضروري بعد جدولة البيانات ، يتم تحليلها إحصائيا لإعطاء صورة وصفية دقيقة حتى يمكن أن تعمم بها نتائج البحث على المجتمع الذي اخترت فيه العينة و على غيره من المجتمعات المتشابهة . و بعد الإنتهاء من عملية التحليل الإحصائي ، تأتي مرحلة التفسير للنتائج المحصل عليها حتى يمكن اكتشاف العوامل المؤثرة في الظاهرة المدروسة و العلاقة الترابطية بين المتغيرات.
ـ كتابــة التقريــر النهائي :
عن طريق هذه الخطوة بستطيع الباحث نقل ما توصل إليه من نتائج إلى القرار، و تقديم المقترحات و التوصيات التي خرج بها من البحث.
إن كل بحث يسير وفقا لحدود معينة من الوقت و التكاليف ، و ينبغي على الباحث وضع الخطوات الخاصة بكل مرحلة في برنامج زمني يتضمن توقيتا دقيقا لتنفيذ كل منها في المواعيد المحددة . و لضمان هذا الإجراء يمكن إعداد بطاقة أو جدول يتضمن خطوات البحث و يقوم الباحث بملئه أثناء تنفيذ البحث.
المـراحل الزمنيـة لإعــداد الإشكاليــة
يتجسد البناء التصوري لإشكالية البحث السوسيولوجي من خلال ثلاث مراحل زمنية :
أولا : مرحلة الجرد الشامل :
بادئ ذي بدء ، يتعلق الأمر في هذه المرحلة بمعاينة المشكلة كما هي مطروحة في التساؤل الأولي ، و كما تبدو لنا من خلال القراءات و المقابلات الاستكشافية .
فعمليا ، يتطـلب هذا الإجراء وضع جرد لمختلف الآراء المعتمدة ، و ذلك بتبيان أوجه الإرتباط و التعارض فيما بينها ، و كذلك إبراز الإطار النظري الذي سيستخدم كمرجع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. إن أي بحث يرتكز على مخطط نظري ، فمثلا المؤلفون الذين يرون أن التسرب المدرسي ناتج عن الوظيفة المحترمة لاختيار و إعادة توجيه الشباب في المجال الاجتماعي ، فإنهم يندرجون ضمن الإطار النظري " للتحليل الوظيفي " ، أما غيرهم الذين يتساءلون عن مقاييس الاختيار و يبينون أن هذا الأخير فيه تفضيل أكبر للطبقات المهيمنة و إعادة لتكريس إمتيازاتها ، فإنهم يرتـكزون على نظرية " إعـادة إنتاج علاقـات الهيمنـة " بينما يرتبط آخرون بأسلوب " التحليل التنظيمي أو الاستراتيجي ".
و لكشف الإشكالية الضمنية للمؤلفين تجدر الإشارة إلى أن ملاحظات القراءة المقتضبة لا تكفي دائما و لا تفي بالغرض ، و لذا ينبغي الرجوع أحيانا إلى النص نفسه.
ثانيا : مرحلة تكوين الإشكالية :
يتعلـق الأمر في هذه المرحلة بتكوين الإشكالية و ذلك إما بوضع تصور لإشكالية جديدة ، و إما بإدراج هذا الإنجاز ضمن أحد الأطر النظرية المكتشفة في القراءات السابقة. إن للخطوة المتعلقة باختيار الإطار النظري أهمية كبرى ، و ذلك لما لهذا الإطار النظري من دور مهم سواء في طرح التساؤل الأولي و تحديده ، أو المساهمة في بناء الفروض التي تمكن الباحث لاحقا من صياغة الإجابة المتناسقة مع هذا التساؤل الأولي.
تأخذ هذه المرحلة كل أهميتها حينما يتعلق الأمر بوضع تصور لإشكالية جديدة ، فمثلا يتضح من خلال دراسة " أميل دور كايم E.Durkheim " للإتحار كيف أنه وضع تصورا لإشكاليته الاجتماعية ، و ساهم بإجابة مكنت من إثراء المعرفة التي كانت لدينا حول هذه المشكلة ، لكن يجب التحلي بالتواضع فإن حدث و تمكنا من إعداد إشكالية جديدة تستخدم سابقاتها و تتعداها فإنه من الأحسن الإتسام باليقظة و الحذر. و ذلك لأنه قبل كل شيء ينبغي القيام باختيارات ، فلا يمكن شرح كل شيء في وقت واحد ، و كذلك فإن كل المداخل المتعلقة بأية مشكلة ليست متسقة فيما بينها ، فقد تكون ثمة رغبة متواترة تدفع إلى جمع كل وجهات النظر المحتملة و دمجها فيما بينها بحجة الوصول إلى الكمال ، غير أن هذا الإجراء غالبا ما يؤول بالبحث إلى الإنزلاق في تأملات غامضة و غير منسجمة.
و في أغلب الأحيان بتعلق الأمر بإدراج مشروع البحث ضمن إطار نظري معد من قبل كما هو الشأن في مثال التسرب المدرسي. ففي هذه الحالة و ضمن المرحلة الزمنية الثانية فإن العمل المزمع إنجازه يقتصر على الإستغلال الجيد لكل الوسائل النظرية المتوفرة ، لذلك فالمسألة إذا تبقى في معرفة نوع الإطار النظري الذي يمكن إدراج العمل ضمنه. إن الموقف المنطقي يتطلب اختيار الإطار النظري الذي يبدو ذا علاقة أكبر بالتساؤل الأول و بالمعلومات المستقاةمن المقابلات الاستكشافية ، و كذا بالبيانات الإحصائية المتوفرة ، ففي ضوء الإشكالية المختارة سيأخذ التساؤل الأولي المعنى الخاص و الدقيق لشكله النهائي ، كما سيتضح التوجه النوعي الذي ستبحث ضمنه الإجابة عن هذا التساؤل . و حينما يكون التساؤل الأولي غير محدد تحديدا دقيقا مسبقا ، فإن الاختيار لإشكالية ما يصبح الفرصة الأخيرة لصياغتها صياغة سليمة ، و غعطائها هذا المعنى الخاص و الدقيق الذي من شأنه أن يجعل البحث هادفا.
إن إعادة صياغة التساؤل الأولي ضمن المفاهيم الخاصة بالمخل المختار ، و كذلك فتح آفاق للإجابة عنه ليست عمليات بسيطة و هينة ، ذلك حتى و إن تعلق الأمر بنظرية معروفة ، فإن إعادة صياغة الإشكالية بطريقة واضحة و منسجمة هو أمر ضروري لأن إهمال هذه العملية من شأنه أن يؤدي غالبا بالباحث المبتدئ إلى الفشل في المرحلة الموالية المتعلقة بالبناء و ستكون فروض هذا البناء متسمة بالسطحية و التفكك و من ثم فإذا كانت مرحلة البناء فاشلة فإن البحث كله سيكون كذلك ، لكن مالمقصود " بالسبب " ؟
نلاحظ بادئ ذي بدء أن كلمة سبب قد استخدمت في المعاني الأكثر تنوعا و تباعدا بعضها عن البعض و من ثم فإن أي استعمال سطحي و بسيط لهذه الكلمة المتعددة الاستخدامات من شأنه أن يؤدي إلى إلتباسات خطيرة مثلما توضحه الأمثلة التالية :
ـ كسل هذا التلميذ هو السبب في فشله.
ـ فقدان الانضباط في مدرسة هو السبب في فشله.
ـ لقد أخفق هذا التلميذ بسبب عدم كفاءة معلمه.
ـ تأثير زملاء السوء كان شؤما عليه.
ـ إن والديه لم يساعداه و يشجعاه بشكل كاف.
ـ لو لم يكن الطقس جميلا جدا لما خرج من البيت للعب ، و هذا سبب إخفاقه.
ـ لو لم يكن تاريخ الإمتحان قد قدم لكان نجاحه مؤكدا.
إن هذا الاشتباه جلي ، و تبعا للحالة ، فإن كلمة " سبب " يمكن أن تعني فعلا " التشجيع "
" الإشارة " " تبرير " " خلق ظرف " " السماح" المساهمة في ... أو منح الفرصة إلخ ...
ينبغي الإقرار أن البحث الاجتماعي لا يخلو من هذا النوع من الخلط في المفاهيم و المعاني ، و لتفادي ذلك ، فإن البعض من المفكرين و من بينهم " كارل بوبر " K.Popper " قد بذلوا جهدهم قصد تحديد العلاقة السببية بوضوح و بكيفية يكون معها الحفاظ على المعنى نفسه في مختلف أشكاله و لكن ذلك التحديد يبقى ضيقا جدا ، الأمر الذي يجعل استخدامه صعبا في البحث الاجتماعي ، لأن هذه الظواهر الاجتماعية التي تدرس من قبل هذه الفروع لا تتطور بكيفية آلية. إن فكرة السببية مازالت تشكل بؤرة النقاشات المعرفية الحادة ، بالنسبة لأميل دوركايم و الوضعيين ، فالسبب هو العلة الثابتة و الخارجة عن المعلول ، فهو فعل مادي يمكن معاينته موضوعيا من الخارج ، و من خلال المثال المتعلق بالإنتحار يتضح أن دور كايم كان يبحث عن اسباب الإنتحار في حال تماسك المجتمع معتمدا على قياسها بواسطة علاقات خارجة عن الضمائر الفرديــة. و هنا تجدر الإشارة إلى أن ثمة عددا كبيرا من الباحثين المبتدئين أو غيرهم ، يجدون صعوبات في التفكير بشكل مغاير عن العلاقات السببية ، فالكثير منهم يرى بأن " الفهم " هو دوما كلمة مرادفة لـ " البحث " عن الأسباب ، إن فهم التسرب المدرسي ، الإنتحار ، البطالة ، لا يعني بالنسبة لهم سوى البحث عن الأسباب و هذا بالرغم من وجود مداخل أخرى غالب ما تكون أكثر وضوحا و ملاء مة.
أما بالنسبة لماكس فيبر و أصحاب مدخل الفهم مثلا ، فهم يرون بأن تفسير ظاهرة اجتماعية ما إنما يكمن أساسا في المعنى الذي يعطيه الأفراد لأفعالهم و هذا هو الذي يتم البحث عنه في شعور الأشخاص ، فهو داخلي و للكشف عن هذا المعنى ، ينبغي الإستناد إلى الآراء الفردية و البحث عن المبادئ و القيم التي توجه السلوكات. إذا السلـوكات الإنسانيـة في الواقع هي مقصـودة و مستلهمة بوعي أو بغير وعي من مجموعة من التمثيلات الذهنية التي لا يمكن خارجا عنها فهم هذه السلوكات ، لذلك لذلك فنظرة معينة على العالم ، إلى المجتمع أو الحياة ، الأمل في امتياز منتظر ، أو الإحساس بمضايقة ما ، تحديد رهانات صراع ما أو كذلك الصورة التي هي لدينا عن الفاعلين الآخرين ، كل ذلك بمثابة عناصر يمكن أن تدخل في تفسير الفعل الإنساني.
ها نحن إذن أمام إشكاليتين إضافيتين بإمكانهما كذلك إستلهام اختبار التسرب المدرسي ، هاتان الإشكاليتان تنتميان إلى نظريتين مختلفتين من حيث أنهما تعنيان هذه المرة بالمنهج و ليس بموضوع البحث ، و في هذا المعنى فإنهما تجمعان ما سبق ذكره من قبل . الوضعيون يرون وجوب دراسة الظواهر الاجتماعية مثلما تدرس الظواهر الطبيعية و شرحها بالبحث عن أسبابها في الأفعال المادية السابقة الثابتة و الخارجة عن الظاهرة المقصود شرحها ، ضمن وجهة النظر هذه ، فإنه لفهم التسرب المدرسي ينبغي مثلا فحص الظروف الاجتماعية و الاقتصادية للوسط العائلي ، و كذا كفاءة المدرسين و ظروف التعليم ، و من كل هذه العناصر الخارجة عن ضمير الفاعلين يمكن الكشف عما يشكل العلة أو مجموعة العلل الثابتة و كيفية الترابط فيما بينها.
أما بالنسبة لماكس فيبر و أتباع علم الاجتماع ، الفهم ، فيرون أن المدخل الوضعي غير كاف لفهم خصوصية الظواهر الاجتماعية على اعتبار أن هذه الأخيرة تعد في نظرهم نتاج للعقل الإنساني ، فلها معنى بالنسبة للفاعلين و من ثم فإن هذا المعنى هو الذي ينبغي إكتشافه ليتم تفسيرها. ضمن وجهة النظر هذه ، و لفهم التسرب المدرسي مثلا ، ينبغي الرجوع إلى القواعد و المعايير التي استنبطها المعلمون و التي تتحكم في قراراتهم و تعبر عن القيم التي تعطى معنى لما يفعلونه.
من الملاحظ فإن هذين التصورين يلتقيان مع بعض المداخل أو الإشكاليات الأخرى و بناء عليه ، فإن اختيار إشكالية ما معناه في الحال نفسها تحديد موضوع البحث تحديدا دقيقا ( مثل التسرب المدرسي بالمعنى ذاته ، أو عمليات الاختيار الاجتماعي ، أو محتويات الدروس و بعدها الايديولوجي مثلا ). و كذا تبني مدخل معين لهذا الموضوع ( تحليل الأسباب ، تحليل الوظائف أو تحليل القيم الضمنية ...).
و من جراء تقاطع هذين المخططين ، فإنهما ينتجان إمكانات متعددة لتصور سؤال ، كما تسمحان بتبيين مداخل أخرى مغايرة للمدخل الذي يرتكز على البحث في الأسباب فقط.
لنكتفي هنا بهذا القدر من النقاش النظري ، فالمهم ليس هو الانحياز إلى تصور نظري ما أو إلى آخر ، و لكن المفيد هو إظهار ما ينجر عن الاختيار لإشكالية ما ، أي بلورة فائدة هذا الخيار بكل وضوح و كذا إبراز الضرورة بدقة لاختيار إحداها دون الأخرى. فلهذا كله يمكن للباحث أن يضع حدا للغموض و الأوهام و بناء عليه ، نعود إلى موضوعنا ، و نلاحظ ماديا كيف نختار إشكاليتنا ، و مثلما أشرنا إليه سابقا فإن الاختيار يتم بصفة عادية ، وفقا للتوجيه المرسوم من قبل التساؤل الأولي ، و المعلومات المشتقة من المقابلات الاستكشافية و كذا الإحصاءات ، و لنفترض أن التساؤل الأولي كان محددا من قبل كما يلي : »كيف يفسر التسرب المدرسـي الكبير الـذي يـحدث لدى أطفال الفئات الاجتماعية الأقل تفضيلا ؟ « و لنفترض كذلك أن الإحصاءات و المقابلات الاستكشافية تؤكد ذلك من حيث أن هذه الفئة تمثل فعلا نسبة عالية للإخفاق المدرسي قياسا بغيرها ، فالنظرية الوظيفية الممحورة على وظيفة الاختيار ، و نظرية إعادة إنتاج العلاقات المسيطرة التي تتساءل عن مقاييس هذا الاختيار ، تعتبران أولويا بمثابة النظريتين الإثنتين اللتين تشكلان أطر نظرية ملائمة لصياغة الإشكالية.
و إذا نحن أخذنا مثلا بالنظرية الأخيرة كإشكالية ، فهذا معناه أننا سنبحث عن إجابة لمشكل التسرب المدرسي انطلاقا من الفرضية العامة التي بمقتضاها أن المقاييس و المعايير و المبادئ التي تحكم هذا الاختيار كلها خاصة بثقافة الطبقة المسيطرة و أنها تحرم أطفال الفئات الأقل تفضيلا.
أما المفاهيم التي يمكن توظيفها هنا هي:
التقسيم الاجتماعي للعمل ، الطبقات الاجتماعية ، الإيديولوجية ، المظهر الخارجي ، الإرث الثقافي ، إلخ ...
ثالثا : مرحلـة توضيـح الإشكاليـة:
إن توضيح الإشكالية معناه دقة التحديد للطريقة الشخصية في طرح المشكل.
و الإجابة عنه ذلك حتى و إن كان يدرج ضمن إطار نظري يتم اختياره بوضوح و حينما نكون بصدد مرحلة توضيح الإشكالية توضيحا معمقا ، فقد لا نمتلك أحيانا كل الوسائل النظرية الضرورية ، الأمر الذي يستدعي على أقل تقدير إجراء قراءات مكملة ، فمثلا و من خلال المثال السابق ، قد يـكون مفيدا القيـام بقراءة المفاهيم التي أصبحت شائعـة في الحديث العـادي ، و تحديدها تحديدا دقيقا ، و من هنا تظهر ضرورة الدروس النظرية ، المتبعة بالموازاة للتكوين المنهجي و تنال الأطر التصورية المجردة كل الأهمية.
إن توضيح الإشكالية معناه الوصف الدقيق للإطار النظري الذي يندرج ضمنه المسعى الشخصي للباحث ، أي تحديد المفاهيم الأساسية و الإرتباطات الموجودة فيما بينها ، و كذلك رسم البناء المفاهيمي المتضمن لاختيار المقترحات ، و التي بدورها سيتم إعدادها لاحقا كإجابة على التساؤل الأولي. فمن هنا يتم وضع المخطط الذي يبنى عليه نموذج التحليل ( و هي مرحلة لاحقة من البحث ) و كذلك رسم الخطوط العريضة لهذا البناء الذي يسمى أحيانا بالفرضية العامة أو الموجهة. لكن نقول من الآن أن الإشكالية لا يمكن أن تبلغ الغاية فعلا إلا ببناء نموذج التحليل ، و صفوة القول .. فإن الإشكالية هي الإطار النظري الشخصي ، الذي من خلاله يتم طرح المشـكل و تتحدد الإجابـة عنه لاحقا.. و إن كلا من التساؤل الأولي ، و الإستكشاف و الإشكالية يمثل الخطوات الثلاث الأولى من مخطط البحث و التي يسودها تفاعل جلي فيما بينها. و تلناول عملية إعداد الإشكالية أهمية كبرى خصوصا حينما يتعلق الأمر بطرح إشكالية جديدة و مع ذلك فالإشكالية في حد ذاتها تبقى خطوة ضرورية حتى و إن كان موضوعها يندرج ضمن إطار نظري موجود من قبل.
الإشكاليـة و البنـاء المنهجـي في البحث السوسيولوجـي
أود أن أتحدث هنا عن جانب أراه في غاية الأهمية عند إعداد رسالة جامعية ، و يتعلق الأمر بكيفية طرح إشكالية بحثية معينة في مجال الدراسات السوسيولوجية ، و تأسيس بناء منهجي تتكامل فيه عناصر البحث.
و في هذه الحال لا أدعي تقديم نموذج مثالي ينهض عليه البحث السوسيولوجي أو عرض تصميم يتخذ كأسلوب في إعداد الأطروحات الجامعية ، بل أحاول إثارة بعض القضايا التي أراها تمثل أولويات الاهتمام في إعداد الرسائل الجامعية.
لهذا أعتقد أن كلا من الإشكالية و البناء المنهجي يشكلان فيما بينهما العمود الفقري الذي يقوم عليه البحث السوسيولوجي ، فالتحكم في طرح الإشكالية و وضع بناء ينطبق لقضايا ضمن سياق منهجي يتوفر على التساند الوظيفي بين مكوناته ، من شأن ذلك المقاربة من إعداد رسالة جامعية تتوفر على الشروط العلمية .
و إذا ما تناولنـا التراث المعاصـر في المنهجية ، لاحظنا اهتماما بكيفيات طرح الإشكالية و علاقتها بالبناء النظري للدراسة ، ثم علاقة هذا البناء بالممارسة العلمية للبحث الاجتماعي.
و أعتقد أن مثل هذا الاهتمام يشجع كثيرا على مزيد من الدراسة و التقصي للبناء المنهجي الذي يطرح بصورة ميكانيكية ، رغم خضوعه لإجراءات و مراحل محددة ترتبط فيما بينها بطريقة دينامية تبادلية.
و قبل أن نشرع في تقديم صورة مبسطة عن الإشكالية و البناء المنهجي ، يتعين علينا الإشارة إلى بعض الملاحظات الأولية.
و أول هذه الملاحظات يتعلق بتكامل و تساند عناصر البناء المنهجي ، فعند مناقشة الإشكالية فإنه لا يمكن عزلها عن السياق الذي تطرح فيه ، و طبيعة التوجه النظري و الظاهرة البحثية ...إلخ . أما ثاني هذه الملاحظات فتتصل بصعوبة الصياغة العلمية للإشكالية في غياب الإطلاع الواسع على المستويين النظري و المنهجي ، و في ضوء هذه الملاحظات يمكننا البدء في تناول الإشكالية و البناء المنهجي في البحث السوسيولوجي ، و ذلك من حيث النظر إلى الإشكالية كمكون أساسي من مكونات البحث ، فضلا عن فحص و تبيان كيف تتكامل عناصر البناء المنهجي.
أولا / الإشكالية كمكون للبحث:
على الرغم من كثرة المحاولات التي تتناول الإشكالية كإحدى المكونات الأساسية في البحث الاجتماعي ، إلا أن المعلومات و الشواهد المتاحة لدينا تؤكد أن عدد كبيرا منها يرتبط بالناحية التجريدية أكثر من ارتباطها بالناحية العلمية خاصة في البحث السوسيولوجي الذي يفرض علينا فهمه ، و معرفة حدوده و ضبط العناصر البنائية المكونة له ذلك باعتباره عنصرا في نسق التفكير العلمي.
و ليس خاف على الدارس في مجال العلوم السلوكية أن البحث العلمي هو عملية تطويع الأشياء و المفاهيم و الرموز و فرض التعميم ، أو كما يراها " بولانسك Polansk " بأنه إستقصاء منظم و دقيق يهدف إلى صياغة معارف يمكن توصيلها و التحقق من صدقها عن طريق الاختبار العلمي ( 21 N.Polansk 1968. ) .
و لما كان البحث السوسيولوجي صورة من صور البحث العلمي ، فهو كذلك تطبيق لعملية التفكـير المنظـم المنتج ، أي أنه وسيلة للدراسة يمكن بواسطتها الوصول إلى حل لمشكلة محددة و ذلك عن طريق النقد الشامل و الدقيق لكل الشواهد التي يمكن التحقق منها و التي تتصل بمشكلة محددة ( محمد الغريب عبد الكريم ، 1987 ، 20 ). هذا الأمر يجرنا إلى النظر إلى عملية البحث السوسيولوجي كنشاط يمثل وحدة واحدة ، يمتزج فيها الجانب المعرفي بالجانب المنهجي ، و يتفاعل ضمنها الطرح النظري بالشواهد الميدانية ، و من ثم لا يوجد فاصل بين ما يسمى عند البعض بالنظري و التطبيقي.
و عليه فثمة بحوث تنطلق مباشرة من الميدان مدمجة المعطيات الأمبريقية و الشواهد المحسوسة بالتراث السوسيولوجي أو العكس. و في هذا الإطار ينبغي أن نشعر إلى أن الباحث السوسيولوجي ينبغي أن يكون " براغماتيا " في التعامل مع المعطيات النظرية و الشواهد الأمبريقية على حد سواء ، و بالتالي لابد أن يطرح عن نفسه في كل مرة مثل هذه التساؤلات :
ـ ما هو الشيء الذي أبحث عنه ؟
ـ لماذا أبحث عنه ؟
ـ كيف أوظفه ضمن السياق العام للبحث ؟
إن عمليـة البحث السوسيولوجي تسير في مجموعـة من المراحل المتتابعـة تتابعـا منطقيا و المتساندة في أدائها الوظيفي بدءا بمرحلة التصور ( بناء الإشكالية ) فالمرحلة التجريبية ( التنفيذ) ثم مرحلة التفسير ( الشرح و التحليل ). و ذلك سعيا للوصول إلى صوغ المفهومات و التحقق من القضايا و وضع النظريات ، و بذلك تسعى عملية البحث السوسيولوجي ـ بكل ـ ما يستند إليه من عناصر البناء المنهجي إلى إقامة البناء النظري للعلم ( محمد عارف ،1975،514 )
ضمن هذا السياق فإن طرح إشكالية ما و بناء قضاياها يكون مسبوقا بصياغة تساؤل أولي وهو يمثل بداية تجسيد الشعور بمشكلة ما تدور في ذهن الباحث . و لهذا فإن بلورة الإشكالية كمـا يذهب إليـه كل من ريـمون كيفي Raymond Quivy و لوك فون كامبنهـود
von Campenhoudh Luc في كتابهما : Manvel de recherche en sciences sociales تتم ضمن سياق زمني متصل في ثلاث مراحل هي:
1 ـ مرحلة الجرد الشامل. Faire le point des lectures et des entretiens.
أي عرض و تلخيص القراءات و المقابلات الاستكشافية.
2 ـ طرح إطار نظري. Donner un cadre théorique أو كما يسميها في مقام آخر
طرح إشكالية ، Se donner une problématique.
3 ـ توضيح الإشكالية المختارة ( أي شرحها )، Exploiter la problématique
retenue.
ففي المرحلة الأولى يتعلق الأمر بمعاينة المشكلة كما هي مطروحة في التساؤل الأولي و كما تبدو لنا من خلال القراءات و المقابلات الاستكشافية. فعمليا ، يتطلب هذا الإجراء وضع جرد لمختلف الآراء و تبيان أوجه الارتباط و التعارض فيما بينها و كذلك إبراز الإطار النظري الذي سيستخدم كمرجعية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ( Campenhoudh 83, 1968 ).
و على هذا الأساس ، فإن تحديد المداخل المتنوعة للمشكلة يدفعنا في المرحلة الثانية إلى محاولة وضع إشكالية البحث ضمن إطار ، أي أن الباحث في هذه المرحلة التي تسمى مرحلة طرح إشكالية أي بناء إشكالية ، و هذا إما بوضع تصور لإشكالية جديدة و إما بإدراج هذا الإنجاز ضمن منظور نظري يكتشفه الباحث من خلال القراءات السابقة ، و عليه فإن اختيار افطار النظري أو ما يسمى بمرجعية البحث له دور مهم سواء عند طرح التساؤل الأولي أو عند بناء الفروض التي تمكن الباحث لاحقا من صياغة الإجابة المتناسقة مع التساؤل الأولي.
تأخذ هضه المرحلة كل أهميتها حينما يتعلق الأمر بوضع تصور لإشكالية جديدة ، لكن ينبغي على الباحث في هذه المرحلة أن يتحلى بالتوضع و الحذر ، ذلك أن المداخل المتعلقة بأية مشكلة ليست متسقة فيما بينها ، و قد تكون للباحث ثمة رغبة متواترة تدفع به إلى جمع كل وجهات النظر المحتملة و دمجها فيما بينها بحجة الوصول إلى الكمال ، غير أن مثل هذا الإجراء غالبا ما يؤول بالباحث إلى الإنزلاق في تأملات غامضة و غير منسجمة ، فلا يمكن شرح كل شيء في وقت واحد ( Campenhoudh , 1968 , 88,89 ) و لكن في أغلب الأحيان يعالج مشروع البحث ضمن إطار نظري معد من قبل ، لهذا فالعمل المزمع إنجازه يقتصر على الاستغلال الجيد لكل الوسائل النظرية و المنهجية المتوفرة ... و في هذه الحالة يبقى الإشكال مطروحا فقـط في معرفـة الإطـار النظـري الملائـم الذي يمكـن إدراج العمـل ضمنـه ( Campenhoudh , 1968,90 ) .
أما في مرحلة توضيح الإشكالية و شرح قضاياها فإن هذا الإجراء يدعو الباحث إلى التحديد الدقيق لقضايا الإشكالية و بالتالي الطريقة الشخصية في طرح المشكلة حتى و إن كان ذلك يندرج ضمن إطار نظري معروف ، إلا أن العملية ليست هينة ، فالأمر يتطلب التحكم في المفاهيم الأساسية و الوصف الدقيق للمنظور الذي يندرج ضمنه المسعى الشخصي للباحث
( Campenhoudh ,1968,90,97 ) هذا المنظور تتحكم فيه عوامل موضوعية تدفع الدارس للبحث عن الحقيقة بكل دلالتها . و هذا لا يتأتى بطبيعة الحال إلاّ إذا كانت المشكلة البحثية مصاغة بطريقة علمية تقبل الاختبار ، كما تجيء في هذه الحالة محدودة على مستويات ثلاثة : الصياغة ، المفاهيم ، الطرح ، هذه الثلاثية تتطلب بالضرورة تفكيك الإشكالية إلى عناصرها الأولية و تجنب الأحكام الذاتية. و هذا في إطار الإرتباط بوجهات نظرية و منهجية تحدد للباحث مساره البحثي.
و من هذا المنطلق يمكن القول أن تحديد الإشكالية وفق بناء نظري محدد مطلب علمي لا يمكن تـجاوزه ، على اعتبار أن المشكلـة البحثية هي نقطة الإنطلاق شريطة أن تكون واضحة و محددة تحديدا دقيقا يمكن التعامل معها سواء في طرح الأسئلة أو في صياغة الفروض و من ثم التجسيد الأمبريقي لها.
و لقـد عبر عن هذه النقطة ترافر Travers في تساؤله الذي أثاره في عدد من الكتابات ، و الذي مفاده ، هل المشكلة محددة بوضوع ؟. و هنا تبدو مسألة الوضوح و كأنها خير تعبير عن روح الإشكالية ، و في ضوء هذه النقطة يمكننا فهم الأسباب التي دفعت كرلنجر Kerlinger إلى القول بضرورة صياغة الإشكالية في تساؤل واضح يمكننا من إدراك العلاقة بين متغيرات الدراسة و إمكانية اختبارها أمبريقيا ( عبد الله محمود سليمان 1973 ، 35 ) ، و كلنا يعلم الشروط المنهجية الصارمة لصياغة الإشكالية في صيغة تساؤل ، خاصة ما تعلق بتحديد متغيرات السؤال ، وضوحها ، دقتها ، ارتباطها بفكرة محورية محددة المعالم ... إلخ.
ثانيـا: البناء المنهجي و صورة التكامل :
يقول إميل دور كايم ، يجب أن نعلم قبل البدء في البحث عن الطريقة التي تتناسب مع دراسة الظواهر الاجتماعية حقيقة الظواهر التي يطلق عليها الناس هذا الإسم ( قواعد المنهج ، 1961 ، 50 ) ، من هذا المنطلق يسعى الدارسون في مجال علم الاجتماع إلى تحقيق هدفين مثاليين من أهداف العلم :
ـ وضوع الرؤية.
ـ الدقة القاطعة.
و يرتبط تحقيق هذين الهدفين بمدى التحكم في وضع بناء منهجي يسود عناصره التساند الوظيفي و الارتباط المنطقي لقضايا الإشكالية ، و هو أمر اتسم بمناقشات عديدة آلت إلى خلاف في الرؤى و تباين في التبرير. و في ذلك يقول " روبرت مبرتون " معبرا عن هذا الوضع : " إن علماء الاجتماع يقسمون إلى فئتين إحداهما ترى أن ما تقوله قد يكون صادقا و لكنها على يقين من أن ما تقوله له دلالة علمية ، و الأخرى ترى أن ما تقوله قد لا تكون له دلالة و لكنها على يقين من صدق ما تقول ( عبد الباسط ، محمد حسن ، 1977، 35 ) ".
في الواقع أن هذا الخلاف يعكس تفاوتا في أسلوب الإدراك المعرفي للظواهر الاجتماعية ... و يستند التفاوت في هذا الأسلوب إلى عنصرين :
ـ عنصر يعكس الاختلاف بينهما في طريقة التفكير ؛
ـ عنصر يشير إلى تباينهما في أسلوب التعبير عن نتائج هذا التفكير .
و عمليا تتحدد عملية البحث وفقا لنقتين هما :
ـ نوع الظاهرة التي يخضعها الباحث للملاحظة.
ـ نموذج التفسير الذي يستعين بع في شرح النتائج.
و بالنظر إلى هاتين النفطتين يتشكل البناء المنهجي من مجموعة من العناصر التي تحدد مسار عملية البحث ، و هذا بمثابة تصور استقراري لعناصر البناء المنهجي في علم الاجتماع ، و هذه العناصر هي :
ـ الاتجاهات المعرفية للبحث السوسيولوجي ؛
ـ الاتجاهات المنهجية للبحث السوسيولوجي ؛
ـ الأدوات المستخدمة في جمع المعطيات من الواقع الاجتماعي ؛
ـ الأساليب العامة لدليل و تنظيم و تفسير هذه المعطيات.
أما إذا أخذنا في الاعتبار ( المشكلات ) و التفسير كعنصرين في عملية البحث السوسيولوجي ، و هو تصور دينامي لهذه العملية ، فإننا نواجه عند إجراء البحث باحتمالات أربعة هي:
ـ الاحتمال الأول: تكون فيه ( المشكلات ) و التفسيرات على المستوى الجزئي ، و في هذه الحالة يتم الاقتصار على المفاهيم العملية على الوقائع المحسوسة فقط ، و من ثم يختار الباحث مشكلاته و يقيم تفسيراته على أسس أمبريقية خالصة ، و هو أسلوب يتميز به البحث الذي يعتمده أنصار الاتجاه الأمبريقي.
ـ الاحتمال الثاني: تكون فيه ( المشكلات ) و التفسيرات على المستوى الشامل بحيث يختار الباحث موضوعا عاما يتميز بالتجريد و القيام بعملية التفسير استنادا إلى البناء الاجتماعي العام. و هذا النوع تتميز به البحوث و الدراسات الكلاسيكية في علم الاجتماع.
ـ الاحتمال الثالث: تكون فيه ( المشكلات ) على المستوى الجزئي و التفسيرات على المستوى الكلي ، كأن يبدأ الباحث دراسته لعناصر محددة ثم يحاول وضع تفسيراته لهذه العناصر في مفاهيم كلية لها صفة الشمولية.
ـ الاحتمال الرابع: تكون فيه المشكلات ذات طابع كلي و التفسيرات على المستوى الجزئي ، و في هذه الحالة يختار الباحث موضوعا ذا شمولية ( واسعا ) ثم يقيم تفسيراته بالرجوع إلى الإحصائيات و الوقائع الأمبريقية.
إن هذه الاحتمالات تعكس لنا التصور المنهجي في كل حالة و بالتالي صورة البحث المرتبطة بحدود الموضوع و كيفية معالجته ، ففي الاحتمالين الأخيرين ( الثالث و الرابع ) يمكن ملاحظة أن الباحث يعتمد إما على النظرة الجزئية أو الكلية في مرحلة اختيار ( المشكلات ) و كذلك الحال بالنسبة لمرحلة التفسير و هو أمر يؤدي إلى الهوة بين المرحلتين ولا يخلق ارتباطا منطقيا بينهما. و بالتالي لا يحقق النموذج المثالي الذي ينبغي أن يكون عليه البحث السوسيولوجي.
و لهذا فإن التكامل المنهجي في الدراسة السوسيولوجية يتمثل في الإجراء الذي يكون فيه الباحث قادرا على التجريد في داخل المرحلة الواحدة من مرحلتي اختيار ( المشكلة ) و التفسير. أي أن الباحث يحاول أن ينتقل بين المستويين الكلي و الجزئي سواء عند اختياره للمشكلات أو عند صياغته للتفسيرات ( عبد الباسط ، محمد حسن 1977 ، 66،61 ) و على هذا الأساس تبدو النظرة العلمية التي توجه مسار البحث السوسيولوجي و تحدد مراحله في الروح النقدية التجريبية ، انطلاقا من التحليل النقدي للتصورات و النظريات ، و العودة إلى المشاهدة الميدانية لتصحيح المفهومات و كذلك النظريات ، و ذلك في ضوء حركية الحوار بين المتصور و المشاهد. لأن البحث ليس عملية ميكانيكية تتم بانفصام الفكر عن الواقع.
و كما يذهب " كلود برنار " فإن المناهج لا يمكن أن تدرس نظريا كقواعد عامة تفرض على الباحث السير وفقا لها ، إنما تتكون في داخل المعمل الذي هو معيد العلم الحقيقي و إبان الإتصال المباشر بالوقائع ( محمد الغريب عبد الكريم ، 1987 ، 18 ).
و صفوة القول ، فإن الإشكالية تشكل عنصرا بنائيا هاما في عملية البحث السوسيولوجي فهي بمثابة الإطار النظري الشخصي المتضمن لصياغة المشكلة و تحديد أبعادها حتى و إن كان موضوع الدراسة يندرج ضمن نظرية معروفة.
كما أن القيمة المنهجية لإجراءات البحث السوسيولوجي رهينة بالدور الوصفي لهذه الإجراءات نفسها ، و أن صورة التكامل المنهجي المرتبطة بوضوع الرؤية و تحقيق الدقة تظهر في قدرة الباحث على المزج بين النظـرة الشمولية ( الحدسيـة ) في تحديد بنـاء الواقع الاجتماعي و كذلك في محاورة هذا الواقع بالإستناد إلى الشواهد الميدانية ضمن نظرة تحليلية نقدية في سياق منهجي واضح المعالم.
و على هذا الأساس ، يبدو جليا أن الإشكالية يمكن تحديدها بطرق مختلفة ، لكنها تتفق في الشروط الإجرائية و النظرية مثل صياغتها بطريقة يمكن اختبارها ، وضوحها ، تمحورها حول فكرة أساسية ، ارتباطها بنتائج الدراسات السابقة ، وضوح مفاهيمها و ترابط مكوناتها واندراجها ضمن سياق نظري محدد.