هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتديات طلبة الشريعة بالوادي
يحتوي هذا المنتدى على المنتديات الاسلامية علوم العقيدة والقرآن والحديث والفقه وأصوله هدفه التواصل العلمي و التربوي مع مختلف المهتمين.
يمكنكم التواصل معنا عبر البريد الالكتروني shariaa39@gmail.com
نطلب من كل الأعضاء الإلتزام بالأخلاقيات العامة وعدم المساس بأي جهة معينة لأن الغاية من إنشاء هذا المنتدى هي خلق جسر للتواصل وليس للطعن في أشخاص بعينهم... وكل مساهمة من هذا القبيل فنحن مضطرون لحذفها.
نعتذر لزوارنا الكرام عن الاعلانات التي تظهر بالمنتدى .. نشير الى انها خارجة عن ارادتنا
موضوع: مدخل لدراسة منهج البحث العلمي عند مفكري الاسلام الأربعاء يناير 05, 2011 12:19 am
مدخل لدراسة منهج البحث العلمي عند مفكري الاسلام
* عبدالإله العراقي يمثل منهج البحث ـ في أي علم من العلوم ـ ظاهرة حضارية تتحدد ملامحها وتتميز خصائصها وفق طبعة المنهج وما ينطوي عليه من مواصفات علمية أو غير علمية، ومن هنا تبرز مظاهر البحث وتتبين ثمراته استناداً إلى معطيات المنهج وما يمكن أن يسهم فيه من إبراز لتلك المظاهر والنتائج، وبذلك تقوّم طبيعة المرحلة الفكرية لأية أمة من الأمم، ويتبين مدى إسهامها في إثراء المعرفة الانسانية عبر تاريخها المديد. ولقد أصبح من اليسير جداً ـ في عصر تقارب الأفكار ـ تمييز الدور العلمي لأية مرحلة فكرية وتشخيص أبعادها ومعرفة أثرها في تطور المعرفة العلمية، استناداً إلى طبيعة المنهج الذي اعتمدح في هذه المرحلة أو تلك الأمر الذي يؤدي إلى اظهار النتائج العلمية وهي موضوع الحكم على طبيعة أي مرحلة. ومن الأمثلة البارزة على طبيعة هذا المسار ما حققته أوروبا الغربية في نهضتها العلمية الحديثة، وتقترن هذه النهضة دائماً بممارسة المنهج العلمي التجريبي بعد أن ثارت على منهج القياس القديم المتمثل بمنطق أرسطو، ثم سارت بعد ذلك بعض الكتابات عن تاريخ العلم تؤكد هذه الظاهرة، وتسجل لأوروبا سبقها العلمي في المجال التجريبي، وتنعى على المرحلة اليونانية قصورها في هذا المجال، وهذا ما يرشح الغرب الأوروبي لأن يكون رائداً للبحث العلمي دون سواه، وهكذا أبرزت تلك الكتابات خصائص الحلقتين اليونانية والأوروبية الحديثة، ملتزمة الصمت عن ذكر الدور الذي مارسه الفكر الاسلامي باعتبارهحلقة متوسطة بين المرحلتين، وكان الاسلاميون في هذه المرحلة مسلوبي التفكير عن مثل هذا اللون من النشاط الفكري. ولقد ذاعت وانتشرت هذه الفكرة حتى سيطرت على عقول معظم المثقفين في هذه الأمة لدرجة يستبعدون فيها أن تكون هناك أمة ـ غير أوروبا ـ قد اهتدت إلى المنهد العلمي، ولذا يدهشون للحديث عن دور علماء المسلمين في هذا المجال رغم اعتراف بعض الرواد في أوروبا بهذا. ويبدو لي أن هذه الظاهرة ولدتها جملة أسباب أدت إلى مثل هذا الموقف من طبيعة الفكر الاسلامي في مجاله العلمي، ويمكن ردّ هذه الأسباب إلى عاملين رئيسيين هما: خلو الأبحاث في مجال تاريخ العلم عن ذكر الدور العلمي للاسلاميين ـ عن جهل أو عمد ـ في مرحلة زمنية كانت الأبحاث المذكورة هي الموجهة لطبيعة الفكر،وكانت معظم هذه الكتابات لمؤرخين غربيين، بحيث حملت كل ما يمكن أن تحمله إحساسات الغالب بالنسبة للمغلوب، ومن هنا بدأت تلك الكتابات تُقيّم الفكر الاسلامي بمنظار أوروبي ينطلق من ذلك الإحساس الذي يتسم بمنطق الاستعلاء والسيطرة الفكرية، ولهذا لا داعي لذكر أية مأثرة علمية للفكر المغلوب ما دامت أوروبا هي المالكة لزمام المبادرة العلمية وما دامت القائدة والرائدة في هذا المجال! وهكذا أُغفل تماماً الدور العلمي لمفكري الاسلام وأصبح هذا الإغفال سمة خاصة لطبيعة هذا النوع من الكتابات. ولقد امتد تأثير هذه النزعة وافتتن بها الكثيرون من أبناء العالم الاسلامي نفسه؛ إذ لا تجد في هذه المرحلة مَن تصدى لهذا التيار، أو حاول على العكس من ذلك أن يبرز الدور العلمي أو يتحدث عن المنهج العلمي في دائرة الفكر الاسلامي. ويشمل العامل الثاني الكتابات التي تنال من قيمة الفكر الاسلامي وتنكر أصالته، بحيث قامت هذه الآراء على الانتقاص من قيمة العقلية الاسلامية، ونعتها بالقصور والتخلف، بأسلوب مجاف للحقيقة، ولذلك جاءت هذه الآراء مثقلة بالأحكام الجائرة والمنافية تماماً لما عليه مواصفات الفكر الاسلامي الذي لا يمتّ من قريب أو بعيد لتلك الأحكام الغربية. ولقد انطلقت تلك الآراء تصف الفكر الاسلامي بما يحلو لها من أوصاف. والغريب في الأمر أن هذه الأوصاف أخذت ترسل إرسال المسلمات دون سند تاريخي أو تثبت علمي، الأمر الذي جعل هذه الآراء متخمة بالتناقضات والاتجاهات المتضاربة، ولهذا تعرض الفكر الاسلامي، كما تعرضت الحضارة الاسلامية برمتها لحملة ظالمة، وتهجم سافر من بعض الباحثين الغربيين على اختلاف نزعاتهم ولغاتهم وبيئاتهم، وكثر جدل هؤلاء حول قيمة الحضارة الاسلامية والفكر الاسلامي حتى انتهوا إلى آراء ينقض بعضها بعضاً. ومن هنا انبرى هؤلاء المؤرخون إلى نعت الفكر الاسلامي بالجمود والتحجر وإلى عدم قبول التطور، وان "العقلية العربية لا تقنع إلا بالحسّ والواقع، ولا تحسن إلا ادراك المتفرقات والجزئيات" وقد أوعز البعض الآخر من هؤلاء إلى أن "جمود الحياة الفكرية عند المسلمين يرجع إلى الموقف السلبي الذي يقفونه من الحياة نتيجة لعقيدة القدر". هذا إلى غير ذلك من النعوت البالية التي حملها هؤلاء المستشرقون على طبيعة الفكر الاسلامي، منطلقين في تقويمهم هذا عن نزعة عنصرية واضحة ليس لها من سند علمي ولا مبرر موضوعي. وباجتماع هذين العاملين لم يعد في عرف هؤلاء المؤرخين أي دور علمي للمسلمين أو على الأقل إسهام علمي في مجال الحضارة الانسانية. لذا جاءت الكتابات التي أشاعها هؤلاء تتحدث عن مزايا وخصائص مرحلتين فقط من مراحل البحث العلمي هما المرحلة اليونانية والمرحلة الأوروبية الحديثة، واعتبار المرحلة الأخيرة هي البداية الحقيقية للمنهج العلمي بعد أن تحررت من قيود النزعة اليونانية ومنهجها القديم في البحث العلمي. إلا أن الباحث المدقق سرعان ما يكتشف الفجوة التي تؤدي إليها هذه النظرة وما تحمله من ظلم سافر لمرحلة مهمة من مراحل الدورة العلمية تلك هي مرحلة الفكر الاسلامي في العصر الوسيط، والدور الذي مثلته على مستوى المعرفة في مختلف المجالات العلمية، فقد استطاع مفكرو الاسلام في هذه المرحلة أن يقدموا أكبر إنجاز في مجال البحث العلمي باتباعهم الطريقة العلمية القائمة على أسس صحيحة، فمارسوا المنهج التجريبي الاستقرائي إضافة إلى مناهج علمية أخرى تمكنوا من خلالها إثراء البحث العلمي وإعطائه الصورةا لمتكاملة، ومما يزيد هذه المرحلة أصالة وعمقاً أن مفكريها تنبهوا إلى مضامين علمية في مجال المنهج العلمي، لم يكن في وسع رواد المناهج في أوروبا الحديثة التدليل عليها أو كشف ملابساتها، وبذلك يتبين أن الحضارة الانسانية تمثل دورة علمية تسهم فيها الأفكار لتؤدي دورها ضمن معطياتها وحدودها، وليس هناك إلزام بين طبيعة المرحلة الفكرية وفترتها الزمنية فقد تقترن إبداعات علمية لمرحلة فكرية هي أسبق بالزمن على مرحلة علمية أخرى، وقد تتناول الأفكار في المرحلة السابقة مفاهيم ونظريات لا تبحث في المرحلة التالية وهكذا. وسنجد أن هذه السمة من الظواهر البارزة في المرحلة الفكرية التي مارسها مفكرو الاسلام في مجال العلم والطريقة العلمية بالمقارنة إلى المرحلة الأوروبية الحديثة لبعض مضامين البحث العلمي. ومن هنا أشار بعض المنصفين من الغربيين ممن أرخوا للبحث العلمي، إلى دور المسلمين وما أسهموا به من إنجازات علمية، بعد أن مارسوا المنهج العلمي الصحيح باتباعهم الطريقة العلمية في البحث، ولقد أجمع هؤلاء المنصفون ـ بعد أن أرخوا للعلم والطريقة العلمية في الفكر الاسلامي ـ على الدور العلمي الكبير الذي تركه المسلمون، وأثره على الطريقة العلمية لدى الأوروبيين في نهضتهم الحديثة، مؤكدين سبق العلماء المسلمين في مزاولتهم المنهج التجريبي في البحث العلمي، وبذلك كشفوا عن الكثير من الحقائق العلمية وتوصلوا إلى نتائج جيدة في حقول علمية مختلفة كان لها الأثر الكبير على تطور العلم والطريقة العلمية. ولم ينحصر فضل الاسلاميين في تبني المنهج العلمي فحسب، بل شمل أيضاً الحفاظ على مرحلة مهمة من مراحل الفكر الانساني تلك هي مرحلة الفكر اليوناني، حيث درست هذه المرحلة على أيدي الاسلاميين بأسلوب النقد والتحقيق وامتازت هذه الدراسة بالقبول والرفض والتعديل لآراء هذه المرحلة، وذلك عن طريق تحقيق النصوص ودراستها وشرحها، ومن هنا تبرز أهمية المسلمين "في تكوين التراث اليوناني: الصحيح منه والمنحول، وفي تحقيق النصوص الصحيحة الباقية لنا من هذا التراث باللغة اليونانية فاذا أضيف إلى هذا دور العرب في شرح التراث الفكري اليوناني والتوسع في إخصابه بالفكر الاسلامي الأصيل العميق، فإننا سنجد أن فضل العرب على التراث اليوناني من كل نواحي الفضل، أكبر من فضل أية أمة أخرى". وهكذا تلقى الاسلاميون التراث اليوناني بالدرس والتحقيق لقبول ما يمكن قبوله من الآراء ورفض البعض الآخر فيها متفاعلين مع ذلك التراث بفكرهم الاسلامي، فتمخض عن ذلك مولد فكر جديد وأصالة مبتكرة تميزت بها مرحلة الفكر الاسلامي في العصر الاسلامي. إن من جملة ما تضمن نقد الاسلاميين للتراث اليوناني، المنطق الأرسطي، ولقد أكدوا على هذا الجانب المنطقي في نقدهم أكثر من أي اتجاه فكري آخر، باعتباره منهجاً لطبيعة التفكير والبحث، وبذلك بيّنوا عيوبه وكشفوا عن أخطائه، والتزموا ممارسة منهج آخر يتمثل في منطق الاستقراء التجريبي بديلاً عن منطق القياس الأرسطي. ولقد زاولوا هذا المنهج التجريبي في بحوثهم العلمية المختلفة فحققوا الكثير من المنجزات في حقول علمية مختلفة. وإلى هذا الحد فاننا نقف أمام دعوى عريضة حول حقيقة منهج الاستقراء وعلاقته بالفكر الاسلامي. إذ المعروف ـ كما ذكرنا في أول الكلام ـ إن الغرب الأوروبي هو الذي سجل بداية حقيقية للمنهج العلمي المتمثل في المنهج التجريبي بعد أن تمرد على منهج القياس الأرسطي فأرخ بذلك بداية للنهضة العلمية. وبناء على ذلك، فقد قمنا بمعالجة هذا الموضوع، ودللا بما توفر لدينا من نصوص فكرية وآراء علمية، بأن الاسلاميين أول مَن مارس منهج الاستقراء وطبقه في حقول علمية مختلفة، وأدرك طبيعة هذا المنهج ومتطلباته العلمية، حيث فصلوا شروطعه وقواعده، وناقشوا مشكلاته بأسلوب علمي دقيق، فخرجوا بنتائج سليمة عن طبيعة المنهج وحدوده العلمية في البحث. ولكي تتبين أصالة الفكر الاسلامي في دراسته لهذا المنهج ينبغي معالجة الموضوع ضمن دائرتين من البحث: الدائرة الأولى: تتمثل في عرض الموقف العلمي لرواد الفكر الاسلامي من منهج البحث اليوناني وتقييمهم لهذا المنهج ومدى صلاحيته في البحث العلمي. والدائرة الثانية: تتناول بالدرس أهمية المنهج العلمي في البحث لدى الاسلاميين، ومجال تطبيق هذا المنهج على مختلف الممارسات في حقول العلم المختلفة. ولسنا هنا بصدد دراسة طبيعة البحث في كلا الدائرتين بشكل موسّع، وإنما يعنينا فقط التأكيد على بعض الملامح العامة، التي تجعل القارئ أمام صورة واضحة عن طبيعة النزعة العلمية، في دائرة الفكر الاسلامي. فعلى صعيد النقطة الأولى أثيرت مسألة فكرية لدى بعض الكتاب مفادها، أن هناك عملية تلاقي بين الفكرين الاسلامي واليوناني، تحت فترة مبكرة من تاريخ الفكر الاسلامي، وقد رتّب هؤلاء على هذا اللقاء موضوع تأثر منهج البحث العلمي لدى المسلمين بالفكر اليوناني، وخاصة منطق أرسطو، ولنا على هذا الادعاء جملة ملاحظات ندرجها كالآتي: أولاً: إذا سلّمنا بأن الفكر اليوناني كان قد دخل العالم الاسلامي منذ وقت مبكر، وخاصة ما عرف من الكتب المنطقية لأرسطو، فهذا لا يشكل حجة على وجود التأثر والتأثير في المنهج الاسلامي، بقدر ما هي مسألة التقاء الفكرين، أو هي ظاهرة اطلاع على علوم الأوائل ـ كما وصفها الاسلاميون ولا تستبطن مسألة الاطلاع هذه، ضرورة التأثر فالاطلاع قد ينتهي إلى قبول أو رفض الجانب المطلع، وبالفعل فقد قوّم الفكر اليوناني لدى المسلمين بعد أن اطلعوا عليه وانتهى ذلك التقويم إلى موقفين متباينين في الفكر الاسلامي، موقف رفض هذا الفكر وأنكره وردّ عليه، وهذا الموقف يمثله جمهور المسلمين بما فيهم علماء الأصول، وهذه الفئة هي التي أنشأ على يديها أصول المنهج العلمي، وموقف تلقى هذا الفكر وأقبل عليه بالدرس والتحقيق، والفلاسفة وجملة علماء تطبيقيين هم الذين يمثلون هذا الموقف. ويختلف موقف العلماء عن الفلاسفة في هذا الجانب، فالعلماء هنا محّصوا الآراء العلمية في ذلك الفكر ودرسوها وبيّنوا معايبها، بحيث أبانوا الخلل في النظريات العلمية المختلفة لاعتمادها على طرق لم يرتضها هؤلاء العلماء، وأمّا الفلاسفة فان بحوثهم العلمية اتسمت بالموقف ذاته الذي مثّله العلماء التطبيقيون، إلا أن أبحاثهم الفلسفية جارت إلى حد ما الاتجاه الفلسفي اليوناني، وخاصة النزعة الأرسطية، ولهذا السبب بالذات اتصفت الأبحاث العلمية بأصالة فكرية تفوق البحث الفلسفي بشيء كثير. ورغم تفوق البحوث العلمية في أصالتها ونتائجها على البحث الفلسفي لدى الاسلاميين، فان الفلسفة الاسلامية امتازت بمفاهيم وأفكار عارضت فيها الاتجاه اليوناني في مفهومه الفلسفي عن الكون والحياة. ومن الطبيعي أن يقابل الفكر اليوناني لدى التيار الأول من المفكرين بالرفض، فلقد كان للاسلام الدور الكبير في صياغة وتعميق العقيدة الاسلامية في نفوسهم، بحيث نشأوا على تصور معيّن عن الكون والحياة، تنطلق من قاعدة اسلامية خالصة، وهذا ما يفسر لنا تحمّس هذه المجموعة وانطلاقها الخلاّق في جميع مجالات الحياة، فما دامت العقيدة قد احتلت من نفوسهم هذه المنزلة، فمن الطبيعي أن تلفظ هذه النفوس كل ما يتعارض ومفهوم العقيدة تلك ولقد حصلت هذه الجفوة بين هذا الجيل والفكر اليوناني، إذ تبين لهم ان هذا الفكر انطلق من تصور خاص يغاير طبيعة تصورهم، وكانت هناك جملة مفاهيم فكرية أدرك مفكرو الاسلام من خلالها طبيعة التعارض الواضح بين طبيعة الفكرين كمفهوم المكان والزمان، وجملة مفاهيم أخرى اضافة إلى رفضهم المنطق الأرسطي الذي واجه معارضة كبيرة، باعتباره علماً يتوقف إلى حد كبير على عبقرية اللغة اليونانية التي تخالف بشكل جوهري أساس اللغة العربية، وهذه اشارة إلى طبيعة الاختلاف بين "جوهر كل من الروحين اللتين أنتجتا هاتين اللغتين". ويرى الدكتور النشار ان العلة الأساسية في رفض المنطق الأرسطي لدى الأصوليين خاصة هي "انهم لم يقبلوا الميتافيزيقا الأرسطية لأنها مخالفة لإلهيات المسلمين. وهذا المنطق الأرسطاطاليسي وثيق الصلة بالميتافيزيقا، وكثير من أصوله يتصل بأصولها وهكذا رفضه المتكلمون. وهذه الفكرة في الحقيقة من أدق الفكر التي وصل إليها المسلمون، وهي كافية لهدم المنطق الأرسطي من وجهة نظر الاسلاميين". وهذا يؤكد ابتعاد الأصوليين عن الأخذ بمنطق أرسطو وممارستهم لمنهج آخر انتهوا من خلاله إلى استدلالاتهم العلمية، والعلم الذي فصلت له الأدلة والمقاييس العلمية لديهم هو القياس الأصولي، فعلى الرغم من "كثرة ما استقبل من تيارات فكرية كالمنطق الأرسطي، والفلسفة اليونانية، إلا أنك لا تستطيع أن تنسبه إلى أمة غير الأمة الاسلامية لوضوح معالم شخصيتها فيه، وفي هذا العلم تتجلى عبقرية هذه الأمة وقدرتها الخلاقة المبدعة". ثانياً: من خلال الدراسات المتعددة تبين أن أوليات هذا المنهج العلمي وجدت في العصر الاسلامي المتقدم لدى فقهاء الصحابة، وجدت هناك جملة أفكار ودلالات تشير إلى بعض القواعد العلمية، فهناك فكرة الخاص والعام التي وضعها ابن عباس (رض)، ومارس بعض الصحابة فكرة (المفهوم) ومورست فكرة القياس كمحاولة قياس الأشياء بالنظائر، الأمثال بالأمثال، كذلك نجد أصول قواعد القياس وشرائط العلة، وإن الصحابة في زمن الرسول (ص) تكلموا في العلل إلى غير ذلك. إن هذه العمليات الفكرية في استنباط الحكم الشرعي تشكل بمجموعها أصل منهج القياس الأصولي، وهو منه يعتمد الدليل الاستقرائي لتعليل الحكم الشرعي وعليه فاننا لو أخذنا بأصل النشأة التاريخية لذلك المنهج فان ذلك سابق على أقدم فرض تاريخي يذهب إلى إلقاء الفكر بين المنطق الأرسطي والفكر الاسلامي. ثالثاً: من المعلوم ان الاستراء بمعناه الاصطلاحي يرتبط بالفيلسوف اليوناني أرسطو، فانه أول مَن نبّه إلى محتواه الفكري، وفصّل نظريته فيه وأشار بأنه عملية "اقامة البرهان على قضية كلية لا بارجاعها إلى قضية أعم منها، بل بالاستناد إلى أمثلة جزئية تؤيد صدقها". وفيما تلا عالج أرسطو موضوع الإحصاء الجزئي لتلك الأمثلة للحصول على النتيجة، فانه انتهى إلى قضية تشبه تماماً صورة الاستدلال القياسي، فقد كانت غاية أرسطو هي الوصول إلى العلم اليقيني عن طريق البرهان والاستقراء وان البناء "المنطقي عند أرسطو أساسه في النهاية عملية استقرائية يتحتم فيها ـ من وجهة نظره ـ أن تستقصى الأمثلة الجزئية كلها، حتى تضمن اليقين، ولو إنهار هذا الأساس إنهار على أثره البناء كلّه". ويقصد أرسطو من إحصاء الأمثلة الجزئية معنى الأنواع لا الأفراد لأن إحصاء الأفراد من الناحية الموضوعية أمر غير ممكن، وبذلك وثق أرسطو علاقته بهذا النوع من الاستقراء لإمكان الحصول على العلم الكلي للقضية النهائية، وتلاحظ أن الصورة التي مارسها أرسطو للحصول على النتيجة تشبه تماماً صورة الاستدلال القياسي "ولذا أطلق على هذا الاستدلال القياسي الذي تذكر الجزئيات في مقدماته بالقياس الاستقرائي، لأنه قياس من حيث صورته العامة واستقراء من حيث استقصاء الجزئيات في المقدمات ولابد لصحة الاستدلال أن يكون الحد الأوسط ـ كما يقول أرسطو ـ شاملاً لجميع الجزئيات". وهكذا وجه أرسطو الاستقراء بمستوى الطريقة القياسية لأن "البرهنة على ثبوت المحمول للموضوع عن طريق استقراء جميع أفراد الموضوع تعطي نفس الدرجة من الجزم المنطقي التي يعطيها القياس". لقد أراد أرسطو من كل ذلك تحقيق العلم البرهاني الذي يعتمد على الأشكال والصيغ، والمستقل تماماً عن التجربة، وذلك لا يعني أن أرسطو قد أهمل التجربة، فانه أشار إليها باعتبارها الطريقة التي يستقر "الكلي" بواسطتها في النفس، لكن أرسطو حين عالج الاستقراء لم يميز بصورة أساسية بين الملاحظة والتجربة، واعتبره اضافة إلى ذلك مجرد معرفة محدودة يتصف بها الشباب، وانه لا يستخدم إلا للدفاع عن حجج العامة أو دحض آرائهم. إن الطريقة التي عالج بها أرسطو مفهوم الاستقراء تمثل الامتداد الطبيعي لنزعة التفكير عند اليونان عموماً، ذلك ان الاتجاه الفكري عندهم يعتمد الاستدلال المجرد بعيداً عن التفكير العلمي التجريبي ومناهجه، الأمر الذي أدى إلى تدهور العلوم الطبيعية عندهم فأدى ذلك إلى عجز التفكير عن النهوض بمنهج علمي يقوى على كشف وتفسير قوانين الطبيعة وصياغة النظريات العلمية التي تطور المنهج العلمي. ذلك أهم ما يتناول البحث في اطار الدائرة الأولى والتي بيّنا من خلالها موقف مفكري الاسلام من المنهج اليوناني بشكل عام ومنطق أرسطو خاصة. أما ما يخصّ البحث في الدائرة الثانية فيقوم على محاولة اكتشاف المنهج العلمي لدى المسلمين والتدليل على الطريقة العلميةا لتي عالجوا من خلالها العلوم المختلفة. لقد استخدم منهج الاستقراء التجريبي في وقت مبكر لدى علماء الاسلام، وكانت قد ظهرت أوليات هذا المنهج على يد علماء الأصول استناداً إلى طبيعة العلوم الشرعية التي تتطلب الوصول إلى الحكم من خلال ممارسة الطريقة الاستقرائية، وقد تنبه الأصوليون إلى قيمة الأحكام ومراتبها العلمية من حيث القوة والضعف تبعاً لطبيعة الظواهر أو القرائن المستقرأة، ولهذا رجحوا سلسلة من الأحكام الجزئية على سلسلة أخرى حسب طبيعة القرائن التي يشملها الحكم الشرعي، ولهذا تكلم الأصوليون في قواعد المنهج واستخلصوا من تطبيقاتهم العلمية أسساً وشروطاً كان لها الأثر البعيد في شروط وقواعد المنهج على عموم رواد المناهج العلمية، وقد امتد هذا التأثير حتى طلائع النهضة الأوروبية الحديثة، بحيث يلمس الباحث بوضوح بصمات ذلك المنهج في أبحاث علماء مناهج البحث الأوروبيين، وخاصة بيكون وجون سيتوارت مل. وبعد انتقال المنهج إلى أيدي العلماء التطبيقيين من المسلمين شهد تطوراً كبيراً، ذلك ان هؤلاء العلماء تناولوا قواعد المنهج بفلسفة علمية تنم عن ادراك ووعي كبيرين، فأفاضوا في الحديث عن خصائصه وشروطه، ولهذا جاءت مراحل الطريقة الاستقرائية، من ملاحظة وتجربة وفروض مدعمة بالمواصفات العلمية، بالقدر الذي يتناسب ومعطيات ذلك العصر. وأشاروا إلى أن الملاحظة لمت كن مجرد مراقبة، بل وسيلة لتحقيق الغاية العلمية، من تدوين النتائج الملاحظة وتدبرها تبعاًَ للطريقة العلمية، ثم ميّزوا بين التجربة الحسية والتجربة المختبرية (العلمية)، وكانت الأخيرة لديهم هي المعيار الوحيد للتثبت في البحث العلمي، وبذلك أكدوا أهميتها ودورها في المجال العلمي، وبناءً على هذا التحديد لطبيعة التجربة سجل الاسلاميون بداية صحيحة للبحث العلمي، متجاوزين بذلك الفهم التقليدي لها في الأبحاث السابقة، وخاصة في الفكر اليوناني. وقد مارس علماء الاسلام التجربة المرتجلة أسلوباً من أساليب البحث في حصر الظواهر بغية اكتشاف سلوكها، وما زال لهذا النوع من التجاربة أهميته الكبيرة في مجال البحث التجريبي، ثم تناول الاسلاميون تقويم القضية التجريبية وما تنطوي عليه من معايير علمية، فأكدوا صدق القضية التجريبية المفردة، وإنها تؤدي نتائج صادقة مقابل القانون التجريبي المستخلص من جملة أحكام تجريبية، الذي يمتاز بنتائج محتملة ظنية، وقد أكد المنهج العلمي المعاصر هذا التمييز بين القضيتين. ثم تناول المسلمون مسألة تقويم القضية الاستقرائية، وتكلموا عن مشكلة التعميم في الاستقراء والفجوة التي يستبطنها هذا التعميم، فأثاروا مشكلة الاستقراء وأصبحت من المشكلات العلمية التي عالجوها في بحوثهم. ولقد تصدى العديد من علماء المناهج الاسلاميين لهذه المشكلة، وبحثوها بشكل دقيق كجابر بن حيان والحسن بن الهيثم والشيخ الرئيس ابن سينا، بحيث انتهى هؤلاء إلى أن القيمة للدليل الاستقرائي لا تتعدى الظن أو الاحتمال، وان غاية ما يحققه المنهج لا يتجاوز هذا اللون من الحكم، ولهذا حصروا الاستدلال الاستقرائي ضمن مفهوم الاحتمال، وان النظرية التي تنتسب إلى هذا الحكم الاستدلالي لا تكون إلا مرجحة أو محتملة وليست ذات يقين مطلق. لقد سجل الاسلاميون سبقاً علمياً بطرحهم المشكلة بالشكل المتقدم، وفاقوا بذلك علماء المناهج المحدثين من الغربيين. وعلى الرغم من أن المسألة قد أثارها هؤلاء وخاصة ديفيد هيوم وستيوات مل. إلا إنها لم تكتسب الحل المطلوب في مناقشاتهم وقصروا في التعبير عن حقيقتها، ولهذا أبان علماء المناهج المعاصرون قصور المدرسة التجريبية الحديثة في هذا المجال على الخصوص. وقد أكد مفكرو الاسلام دور الاستقراء في البحث العلمي، وانتهوا إلى الاستقراء لا يمثل سوى مرحلة من مراحل الاستدلال العقلي، وبهذا أكدوا ضرورة تطوير منهج البحث، فاستعانوا بمناهج علمية أخرى حققت لهم عملية التطوير هذه، فمارسوا منهج القياس والتمثيل والمنهج الفرضي والمنهج الرياضي. لقد تمثل منهج القياس في أبحاث الحسن بن الهيثم وخاصة في مجال الضوء، حيث اتخذ منه أداة لاستنباط النتائج العلمية بعد التثبت منها تجريبياً، وشاع استخدام نهج التمثيل لدى جملة علماء آخرين، وقد اتسعت تطبيقات هذا المنهج فشملت حقول الفلك والطب. وتعتبر مدرسة جابر بن حيان هي الرائدة في مجال تطوير منهج الفرض الذي أرسى على أساسه نتائج علم الكيمياء لديه، وبذلك اعتبر جابر بن حيان صاحب الكيمياء التجريبية القائمة على نظرية فلسفية. ثم طور المسلمون المنهج الرياضي ليصبح أداة قادرة على التعبير عن نتائج البحوث المختلفة ولاستخدامه في حل بعض المشكلات العلمية، ولهذا ظهرت تطبيقاته في حقول الفلك والميكانيك والضوء. وقد أدرك الاسلاميون مدى إسهام الرياضيات في تطوير البحث العلمي، وما زالت بعض المفاهيم الرياضية التي مارسوها متعارفاً عليها حتى الآن، ويعتبر تطبيق الاسلاميين للمنهج الرياضي في بحوثهم العلمية خطوة متقدمة، فاقوا بها المحدثين من الغربيين، والذين خلت مناهجهم العلمية من الاشارة إلى دور الرياضيات في البحث العلمي. إن التتبع والتوسع في بحوث المنهج العلمي لدى المسلمين يؤدي إلى تجلي صورة المنهج لديهم والخطوات العلمية الكبيرة التي خطوها في هذا المجال، ويستطيع الباحث المنصف أن يقف على مدى الاسهام الكبير الذي حققه مفكرو الاسلام في مجال البحث العلمي، وهو إسهام يدعو إلى إجلال وتقدير كبيرين.
قطر الندى مشرفة على قسمهـا
عدد المساهمات : 210 نقاط : 267
موضوع: رد: مدخل لدراسة منهج البحث العلمي عند مفكري الاسلام الجمعة يناير 07, 2011 9:55 pm